محتويات العدد 12 ديسمبر (كانون الأول)‏2004‏‏
م

مطرب الشوارع.. حرية وجنون

آن شيو

أصوات مطربي الشوارع هي السبب المهم لإقامتي في هذه المدينة. كلما عبرت هذا النفق الأرضي الطويل صادفت ذلك المطرب يغني بقلب مفعم بالحب العميق حاملا جيتاره بين ذراعيه. الموسيقى، بكين، الهيام على الوجه، الحرية. كل هذه المعاني تتدفق منسابة مع صوت الغناء الصافي. أشعر بأن قلبي يتوقف بجوار المطرب رغم أن جسمي قد طفا بالفعل على سطح الأرض.

مطرب الشوارع يغني ويعزف من أعماق قلبه، ويختار التشرد أسلوبا لحياته، غير مبال بما يقول الآخرون، فالمهم بالنسبة له أن يكون ذا شخصية مميزة. يبوح بمكنون قلبه بأغنية. يهيم على وجهه في المدن ويهجر أسلوب الحياة الذي يعتاده البشر سعيا وراء حلمه بالموسيقى، ويحصل على قوته من غنائه. ومطربو الشوارع لهم سمات مشتركة، أبرزها أنهم:

1- مولعون بالعزف والغناء ويجيدون، إلى حد كبير، العزف والغناء، ومن عشاق أغاني الروك.

2- يسعون لإبراز شخصياتهم المتفردة، فهم حريصون على الذاتية، ولهم فهم خاص للموسيقى، التي يتخذونها جزءا لا يتجزأ من حياتهم.

3- يطلقون شعرهم ويرتدون قمصانا بياقات كروية وبنطولنات جينز، مقاييس ثيابهم مريحة.

4- أعمارهم بين العشرين والثلاثين.

من بين الهائمين على وجوههم في العاصمة الصينية مجموعة  في العشرينات من العمر، شعورهم  طويلة، يرتدون الجينز ويحملون الجيتارات على ظهورهم. في الربيع وفي الخريف، وفي الصيف والشتاء أيضا ترى أشباحهم فوق جسور المشاة وفي الأنفاق والشوارع والأزقة وتسمعهم يغنون أنغام الجيتار في أجواء حرة طليقة. تختلف طبائعهم  وأزياؤهم عن الفنانين الشعبيين. مصدر رزفهم هو عروضهم في الشوارع. إنهم لا يتسولون، ترى أمامهم علبة جيتار سوداء تتناثر عليها قطع من العملة.

يعجبني لجوء هؤلاء المطربين إلي هذا النوع الخاص من أسلوب الحياة، لعلهم كانوا من مطربي جامعات، لعلهم شباب حالم بالنجومية  يبحثون عن ساحة يطلقون فيها العنان لمواهبهم......لكنهم يبدون راضيين عن العزف لأنفسهم بأنفسهم، وأكثر رغبة في إطلاق أرواحهم الموحشة إلي فردوس حر......

كان جنديا!

عرفته في نفق المحطة. كان حينذاك يجلس مفترشا أرض النفق يغالبه النعاس، ساندا ظهره إلي الجدار. يخفي شعره الطويل نصف وجهه ويغطي ساقه بفوطة مخططة، تحرك يده الوتر، يغني "حميمة المطرب المشرد"، لا أجد من الكلمات ما أصف به هذا النوع من الانتشاء إلا بأنه "نسيان نفسه وكل ما حوله".

في صوته جاذبية مغناطيس. بعض المشاة يتوقفون ويلقون إليه بنظرات غريبة، البعض يلقي بعملة صغيرة إلى علبة الجيتار السوداء أمامه، أما هو فيلقي إليهم نظرة خاطفة.

استمعت إليه مدة طويلة حتى دندنت معه، فتوقف فجأة وأشعل سيجارة وبدأ يتحدث معي، أنا المستمعة المخلصة له. قال:" أنا من قومية يي، لم أشتغل بالموسيقى، بل الرقص. أصبحت جنديا فنيا وأنا في الرابعة عشرة من عمري، أديت رقصات القوميات لمدة عشرة أعوام. بعد تسريحي من الخدمة عشقت الغناء وتعلمت العزف على الجيتار بنفسي. في الحقيقة، أحب كتابة الكلمات أكثر، فالتحقت بجامعة بكين للتأهيل الفني والأدبي، ليس عندي محاضرات اليوم، فهربت من الجامعة لأغني هنا."

سألته"ماذا كان شعورك عندما غنيت لأول مرة؟" أجاب بلا تردد: " كان من الصعب أن أفتح فمي خاصة عندما زم المشاة زوايا أفواههم وعيونهم اضطربت للغاية. الوضع حاليا أفضل، عرفت كثيرا من الناس يحبون الاستماع إلي صوتي حتى إنهم يغنون معي أحيانا، فأشعر بالرضاء والاكتفاء." سألته:" كم تكسب في اليوم؟" قال مبتسما:" أحيانا أكثر من مائة يوان، أحيانا عشرة يوانات فقط. بالفعل، أتمني أن أكسب تكاليف المعيشة ورسوم الدراسة بنفسي بينما أكسب كنزا من تجارب الغناء وأرتقي بمهارات الغناء. عندي أصدقاء كثيرون مثلي، يبذل كل منهم أقصى جهوده ليجد لنفسه موطئ قدم ونقطة اختراق. رغم أن البيئة في المقاهي أفضل من هنا، إلا أنها مقيدة بأشياء كثيرة. نفضل تحمل المشقات والمتاعب من أجل الإبداع والمشاعر". أضاف بعد دقائق من التفكير والتأمل:"لا نغني في نفس المكان لأيام متتالية، فنحن لا نحب أن يتحول المشاة إلى معارف، وأن تفتر حماستهم، ونخجل من قبول الهدايا من نفس الاشخاص..."

عندما أخرجت من جيبي بضع عملات ورقية، رفض.

فاشل في امتحان القبول الجامعي

رأيتهما في مخرج المترو، بوجههما الطفولي الطلابي، فعمر الواحد منهما لا يتجاوز التاسعة عشرة. مستواهما في الغناء والعزف لا يقارن مع مستوى البطل المذكور سابقا، لكن يبدو عليهما أمارات الجدية. من أجل تجاذب أطراف الحديث معهما، سألت:" هل تعرفان المطرب الشاب ذا الشعر الطويل؟" قال  أحدهما:" طبعا! نعرفه، يسكن بجانب جامعة بكين، طباعه غريب وقليل الكلام." ثم بدأ يقدم لي نفسه قائلا:" توقفت عن الدراسة، فشلت في امتحان القبول الجامعي بعد إنهاء المرحلة الثانوية. طلب أبي وأمي مني أن أعيد المحاولة، بيد أنني عشقت الجيتار. قال معلمي إن لديٌ طاقة كامنة كبيرة وأشعر بأني أتمتع بنبوغ الغناء والعزف، أهم شيء هو أنني لا أشعر بالسرور والسعادة إلا مع الغناء. الآن، نشترك في فرقة أكثر من عشر ساعات كل يوم لنتعلم على يد عازف جيتار محترف ونغني في محطات المترو إذا كان عندنا وقت فراغ. أثق بأننا نستطيع أن نكسب رزقنا ونعول أنفسنا. إذا أتيحت لي الفرصة والمال، سأواصل دراستي، لكن بلا شك، في معهد الموسيقى."

الصبي الآخر بدا خجولا، قال بصوت منخفض:" بدأت أتعلم العزف على البيانو الإلكتروني منذ دراستي في روضة الأطفال، لكنني لم أحب تعلم العزف عليه، فما كانت معلمتي تدخل البيت حتى أبكي، وبعد نصف سنة تركتني المعلمة. منذ ذلك الوقت هذه الآلة موضوعة فوق الدولاب. عشقت الجيتار وكأن يدا خفية دفعتني إليه بعد انتهاء المرحلة الابتدائية. اشترت لي أمي جيتارا ودعت لي معلما. مهارتي تؤهل للتقدم لامتحان المدرسة الثانوية العليا، لكن للأسف أنا لست متفوقا في الدراسة، ولم يكن أمامي إلا الالتحاق بمدرسة ثانوية عادية. يرتفع مستواي في العزف رغم أن مستوى دراستي ليس جيدا. قررت أن أشترك في امتحان القبول الجامعي العام القادم، إذا فشلت مرة أخرى، سأتفرغ للموسيقى." تأمل قليلا وقال لي متطلعا إلي غد سعيد:" لا شك أنك تعرفين أن كثيرا من المطربين المشاهير بدأوا مهنة الغناء من المترو والمقاهي... أنتظر أن يكتشفنا شخص ذات يوم، نغني هنا حيث الناس كثيرة والفرص كثيرة."

سألت:" هل تواجه معارضة من الآباء؟" قال:"طبعا! لكن أعتقد أنني أعيل نفسي بكد يميني. رغم أن مستواي لم يصل إلي المستوى المهني، بيد أني ألقي نفسي في الغناء مفعما بالنشاط والحماسة. لا أشعر بالخجل، إذ أني أبرز مواهبي وأكسب رزقي من خلال جهودي. فوق ذلك، نحن شباب، ما زال أمامنا فضاء كبير للنمو والتقدم."

المغني الجوال

ليس له مظهر المطرب المشرد، من شعر طويل ولحية مرسلة. فشعره ممشط ولحيته حليقة نظيفة، يبدو وكأنه من الموظفين ذوي الياقات البيضاء. إنه كان يعمل في مسرح تم تسريحه من الخدمة، فاضطرته الظروف إلى العودة لمهنته القديمة. يعزف على الجيتار ببراعة، كان يغني مع أصدقائه في المقاهي، لكن برنامج العرض قليل، فلم يرضه فاختار الغناء متجولا. قال:" لا يفهم كثير من الناس لماذا لم أبحث عن عمل ثابت، واخترت الغناء في الشوارع، واقترح عليٌ البعض أن أغني في المقاهي، فأكسب مزيدا من المال وأحفظ كرامتي، بيد أني لا أحب هذا النوع من الحياة، مكتوب عليٌ أن أختار حياة التشرد بسبب مزاجي وطبيعتي، فأنا أعتقد أن الغناء المشرد في حرية مقارنة مع الأعمال الأخرى، أغني ما أشاء وأذهب حيثما أحب، لست في حاجة إلي السباق مع الزمن ولا أخضع لترتيبات الآخرين، آتي عندما أحب، وأغادر وقتما أشاء."

شرب جرعة من الماء، وقال:" يعجبني هذا النوع من أسلوب الحياة، يمكنني أن أجوب أي مكان فى أي وقت وأوسع الأفق، يصف أصدقائي حياتي بأنها"على الطريق"، حيث أصل بلا انقطاع وغادر بلا توقف، أتخذ الطريق بيتا، أغني وأنا أتشرد في الشوارع، وهذا ليس فقط لكسب الرزق، بل لزيارة كل مكان والاستمتاع بالمناظر المختلفة والتلذذ بالثقافات المتنوعة والتقاء الحشود المختلفة. أشعر كلما أسافر إلي مكان غريب، بأنه تغير وتحد وتناسخ لنفسي. أعترف بأن أسلوب الحياة هذا شديد المرارة، لكن في هذه المرارة حلاوة. لا أعلم متى سأتوقف عن حركتي، ربما في يوم ما أتعب."

تأثرت بكلامه مع أني لا أستطيع أن أقول لكم الأسباب، ولكنني كنت قادرة على الشعور بانتشائه وطموحه. "أحب أن أحاط بحشد كبير وأنا أغني، في هذا الحين، أصبح شديد التأثر، حيث أحس بتأييد وتشجيع الآخرين. إذا مر المشاة متعجلين ولم يستمع أحد إليٌ، لا أشعر بالثقة بنفسي بل بالحزن. لذلك، أفحص نفسي وألخص تجاربي دائما لإيجاد الطرق والسبل لجذب المشاة، فأعرف كيف أغني لمختلف الفئات."

سألته:" هل صادفت شخصا ترك انطباعا عميقا لديك؟"

قال:" طبعا. أتذكر فتاة، عرفتها في حديقة بوسط الشوارع، حينذاك كانت تستمع إليٌ جالسة القرفصاء بجانبي لمدة طويلة. عزفت لها حوالي عشر أغنيات دفعة واحدة، بكت الفتاة وسألتني متشنجة:" هل تستطيع أن تعزف "900 وردا"؟" عزفت لها... بعد ذلك، كانت تأتي دائما للاستمتاع إلي غنائي وتغني معي أحيانا." توقف وسعل. "فيما بعد؟" سألته. قال:" ليس هناك فيما بعد، قدري أنا المطرب المشرد أن لا أتوقف عند شخص بعينه."

المطربون المشردون فئة خاصة في المجتمع. في الدول الغربية، يشكلون لوحة مميزة؛ ظهر المطربون المشردون في الصين في ثمانينات القرن العشرين وتمركزوا رئيسيا في منطقة  تشونغقوانتسون ببكين، معظمهم شباب تلقى تعليما عاليا لكنهم من أجل إرضاء الذات أو التخلص من شيء ما، يعيشون على هامش المجتمع.

يعتقد الخبراء أن من بين هؤلاء المطربين موهوبين أكفاء، قد يخرج منهم فنانون كبار يوما ما بعد أن تصقلهم الحياة في قاع المجتمع، فالأغالبية منهم محبون للحياة، مفعمون بالنشاط والحيوية، لا يعرفون التراخي. 

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.