محتويات العدد  11 نوفمبر (كانون الأول) ‏ 2004
م
الأسواق الشعبية.. جنة الفقراء ومتعة الأغنياء

  استطلاع: عادل صبري

في عصر العولمة والعم "ماك" حيث البقاء للأقوى، تحولت الأسواق إلى ما يشبه المدن الكبرى. فما يعرف بـ "المول" التجاري مثل مجموعة "كارفور" في القاهرة وبكين وعواصم الخليج وأوروبا تحول الشراء إلى نزهة، قد تمتد ساعات أو أياما داخل المكان الواحد، الذي يحتوي على أحدث ما ينتجه الشرق والغرب، ويعرض بطرق تخلب العقول.. مع ذلك بقيت الأسواق الشعبية قبلة العاشقين لروح الماضي وعبق التاريخ وجنة الفقراء والسائحين والباحثين عن التميز في الجودة والأسعار. البيع، وقدرة على ال

على امتداد آلاف الكيلومترات بين عواصم العالم القديم، ترى في بكين عشاقا لسوق الحرير وفي الهند أسواق بومباي، وخانات إيران حيث السجاد بأصفهان وأزمير، وتشتري أفضل "الكشمير" من أفغانستان.. وعلى مرمى طريق الحرير القديم، تجد في دمشق سوق "الحميدية" حيث المشغولات النسيجية اليدوية وفي قاهرة المعز، يظل خان الخليلي الذي تأسس منذ ألف عام رمزا للأصالة التاريخية وحاميا للمهن اليدوية الراقية.. إذا عرجت للغرب تخطف أبصارك أسواق سوسه في تونس، للمشغولات اليدوية والملابس التي تنافس مثيلتها في الرياط ومراكش. حتى البلاد التي لا تمتلك تاريخا صناعيا كدول الخليج والسعودية، الأسواق الشعبية فيها تقوم بدور الراوي في الحكاوي العربية القديمة، فها هنا في جدة حيث سوقها القديم، تتزاحم البضائع التركية والصينية والمصرية والسورية، وحديثا دخلت منتجات أوروبا وروسيا على أرفف المحلات وأرصفة الشوارع. تحدثك البضائع عن رحلات الشتاء التي كان العرب يقومون بها إلى بلاد الشام، حيث يجلبون الملابس والحلى، ورحلات الصيف إلى اليمن حيث يشترون التوابل والشاي والبن المحمولة من شرق أفريقيا وجنوب آسيا التي بدأت قبل الإسلام وما زالت مستمرة حتى الآن!! البيع، وقدرة على ال

صمود في وجه العولمة البيع، وقدرة على ال

ظلت الأسواق الشعبية صامدة في وجه التغيرات الكبرى التي تجتاج العالم فعندما توارى "الجمل" أمام زحف القطارات والبواخر العملاقة، حولت الأسواق الشعبية هذه الوسائل إلى خادم جديد لأهدافها، بل أصبح أكثر طوعا وسهولة، تسارعت حركة البيع والشراء وانخفضت أسعار النقل وتأمين وصول المنتجات في الوقت المناسب وبالطريقة الملائمة. البيع، وقدرة على ال

لذا لم يكن مستغربا أن يصمد سوق الحرير في بكين وتشانغ يانغ جياي في شنغهاي أمام حركة التغيير الشاملة، التي تشهدها الصين منذ سنوات.. بالأمس البعيد كان سوق الحرير يعرض عشرات الأنواع من ملابس الحرير الفاخرة التي تريدها الطبقات الثرية في الصين والقادمون من البلدان الأخرى، اليوم أصبح سوق الحرير يعرض المنتجات الحريرية بأسعار زهيدة، وتتراص بجواره الملابس الحديثة من الماركات العالمية مثل "أديداس" و"نيكي" و"بوما" ويمكنك أن ترتدي أفضل الأحذية من العلامات الشهيرة، مثل تمبرلاند بما لا يتجاوز قيمته 15 دولارا، في الوقت الذي تعرض فيه بالمحلات الكبرى بعشرة أمثال هذا المبلغ على الأقل، ولا يمكن لفرد من الطبقة المتوسطة التفكير في شرائه عند رؤيته في المحلات الأوروبية والأمريكية. بل تحول سوق "تشانغ يانغ جياي" إلى جنة الخلد للذين يحلمون بالحصول على المتعة الكاملة بأرخص الأسعار. يمكن  لشخص عادي إرتداء رباط عنق من الحرير المصنع يدويا ماركة بيير كارادن وجوس وأرماني أصلية، بعشرة دولارات فقط لأنها مصنوعة في الصين، وبدولارين يمكن أن تشتري نفس المنتج المصنوع من نسيج أقل جودة، وغير أصلي والفرق بينهما في الرؤية لا يمكن معرفته إلا على يد خبير ممرس في الشراء. ويتحقق الحلم الأكبر عندما يعرض عليك الباعة وهم يهمسون في أذنك خوفا من أجهزة الرقابة على التصنيع والبيع التجاري، شراء ساعة رولكس قيمتها لا تقل عن ألفي دولار أمريكي، بمبلغ لا يزيد عن 100 دولار. كما يغرونك بعشرات النماذج التي تعرض في صناديق سحرية بالمحلات، بعيدا عن العيون لساعات جوس وغيرها من أفضل الماركات العالمية، بعضها حقيقي مصنوع يدويا ولكن درجة ثانية أو تقليد متقن للغاية. المهم أن الفقير يخرج مرتديا ملابس وحاملا هدايا كأفضل الأغنياء، والغني يزداد قدرة على الشراء وحمل الكثير من الهدايا لأهله أو أصدقائه عند عودته لبلده. البيع، وقدرة على ال

هكذا الحال في الأسواق الشعبية في القاهرة، حيث تختلط في سوق الموسكي وخان الخليلي الصناعات اليدوية الدقيقة رفيعة المستوى والجودة، بأخرى زهيدة تأتي من الأقاليم داخل الدولة أو المصانع الصغيرة، حيث الأجور الرخيصة والإنتاج الوفير- كما تعلق البضائع القادمة من الصين وإندونيسيا والبرازيل والهند بل أحيانا تجد معروضات من أوربا وأمريكا وروسيا. المهم عند البائع أن يوفر للزبون ما يريد وما يشتهى، وبالنسبة للمشترى يبحث عن الأرخص والأغرب والأجود أحيانا. البيع، وقدرة على ال

رموز للوحدة بين الشعوب البيع، وقدرة على ال

الأسواق الشعبية هي رحم الشعوب الذي يحمل للناس تراث الماضي وأريج المستقبل، لذا لم يكن غريبا أن تطلق الأغاني الشعبية على هذه الأسواق، بل أصبحت في مرحلة التحرر الوطني رمزا للوحدة ومكافحة الاستعمار. فلم يجد عبدالحليم حافظ، المطرب الراحل، كلمة أكثر بلاغة عند إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، من قوله: من خان الخليلي للحميدية.. تورثنا ثورة أبية. فالسوق هنا تحول إلى رمز لقلب أمتين امتزجتا في كيان واحد. ولو زرت معي هذين السوقين لوجدت مدى التشابه في الشكل والمضمون، وطريقة المعاملة الجيدة التي يعامل بها الغرباء والسائحون. البيع، وقدرة على ال

من الرابح؟! البيع، وقدرة على ال

رغم الغوغائية على تحديد الأسعار التي قد تحدث عند الشراء من سوق الحرير في بكين أو تشانغ يانغ جياي في شنغهاي والصراع بين البائع والمشتري على السعر النهائي ففي نهاية المطاف يخرج الطرفان في غاية السرور. فالنصائح التي تلقيتها في بكين بأن دفع نصف قيمة السعر الذي يطرحه البائع للسلعة على الأكثر، كانت غريبة على سمعي في بادئ الأمر. واكتشفت عند جولتي بسوق الحرير المجاور للسفارة الأمريكية أن الكل يهوى "الفصال" للحصول على أكبر خصم ممكن، حيث بمقدورك أن تشتري السلعة بربع ثمنها، فتعتقد أنك حققت نصرا، بينما البائع المشاكس يعلم أن الصفقة تمت في صالحه، فهم في نهاية المطاف يعرفون فن البيع، خبراء في الشراء، حيث تأتي لهم البضائع من المصانع مباشرة أو ينتجونها لحسابهم بالكميات والمواصفات التي يحددونها.. البيع، وقدرة على ال

وإذا كان هذا يحدث في بلد أصبح مصنعا للعالم ويحترف شبابه وشيوخه التجارة منذ آلاف السنين ويشهد على عظمة أعمالهم طريق الحرير الواصل بين بكين وأوروبا وجزيرة العرب فإن المشهد لا يختلف كثيرا في أسواق جدة ومكة، وخان الخليلي ومراكش. فالتجارة للذين يسكنون هذه الأماكن حياة وليست مجرد مهنة، يمارسونها ببساطة وتعمل بنظام آلي في أدمغتهم، كما ينبض القلب في الجسد بطاقة لا إرادية، ولكن بانتظام ودقة متناهيين. البيع، وقدرة على ال

لهذا لديهم رؤية في "الزبون" فيعلمون من الذي يريد الشراء من "غاوي الفرجة"، الخبير في "الفصال" من الهواة.. بل أكثرهم يجيدون لغات إضافية، فإن كان الصينيون يتكلمون الإنجليزية "بركاكة" في سوق الحرير، فزملاؤهم في شنغهاي أكثر طلاقة والمصريون في خان الخليلي يلاحقون الأجانب بالفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية أحيانا بينما يغازل أهل الشام وجدة الزائرين باللغة التركية والفارسية وأحيانا يتكلمون في مكة اللغات الهندية والأردية والسواحلية الخاصة بشرق أفريقيا. هكذا هي الأسواق الشعبية روح للحضارات، نبض حي لتاريخ البشر، ولسان حال الأمم الذين يتكلمون لغة عملية واحدة .. وهي لغة التجارة، ولكنها بعيدة عن الوحوش التي أطلقتها لغة الغرب من أجل العولمة، حيث يقضي الكبير على الصغير.. فهنا في هذه الأسواق يتعايش الجميع، التاجر الكبير بجوار الصغير، المشتري الغني وبجواره الفقير. كلهم يجدون متعه في البيع، وقدرة على الشراء، ورغبة في العيش الآمن ويرسمون على شفاهم في نهاية اليوم والرحلة ابتسامة النصر والأمل في لقاء المحبين. البيع، وقدرة على ال

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.