محتويات العدد  11 نوفمبر (كانون الأول) ‏ 2004
م

المال لا يشتري السعادة.. ولو في الصين

حسين إسماعيل

لا أظن أن ثقافة أي أمة تخلو من مثل يعني أن السعادة لا تُشترى بالمال. ربما يعترض الفقراء، أو معظمهم، غير أن الواقع في الصين، وخاصة خلال العشرين عاما الأخيرة يؤكد أن ما قاله القدماء لم يكن مجرد ترويح عن النفس قاله فقير لا يملك شيئا. المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

لقد شهدت الصين في العقدين الماضيين تحولا كبيرا، حيث تضاعفت الدخول عشر مرات أو يزيد وتحسنت مستويات المعيشة بالمعايير الاقتصادية المادية وحقق المجتمع تقدما، ماديا، لا يصدقه من لا يعرف الصين أو الذي يعيش بعيدا عنها. البعض من علماء الاجتماع الصينيين يقولون إن الفرد الصيني لم تكن تزعجه المشاكل النفسية كثيرا، غير أن ما نشرته أجهزة الإعلام الصينية عن الشاب الجامعي الذي تحول إلى قاتل بعد خلافات طفيفة مع زميل له والعمال المهاجرين من القرية إلى المدينة الذين ينتحرون بعد فشلهم في الحصول على أجورهم المتأخرة، ومعاناة عدد من النخبة الاجتماعية من الهيبوتشوندريا، وهي حالة يتخيل فيها الفرد أنه مريض، والمسئولين الحكوميين الذي يدمرون تاريخهم الوظيفي بشراهتهم وقبولهم الرشوة، كل ذلك يطرح قضية العلاقة بين الثراء والسعادة، وهي قضية قديمة متجددة. المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

نفر من علماء النفس الصينيين، ومنهم البروفيسور وانغ دنغ فنغ، أستاذ علم النفس بجامعة بكين، يعزو هذه الظواهر التي لم يعرفها الصينيون من قبل، أو على الأقل بهذه الدرجة، إلى العقلية غير السوية لأفراد فشلوا في التعاطي مع مجتمع متغير بسرعة في هذه الفترة الانتقالية من تاريخ البلاد.  الفترة الانتقالية التي يقصدها أساتذة السيكولوجي هي الانعطافة التي شهدتها الصين في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، من النظام الاقتصادي المخطط إلى نظام اقتصاد السوق، الذي كانت تحرص أجهزة الإعلام حتى وقت قريب على وصفه بالاشتراكي. خلال تلك الفترة  صعدت طموحات الأمة الصينية وأُعيد تصنيف الفئات الاجتماعية. وفي خضم هذه العملية أتيحت للبعض فرصة الانطلاق، إلى بعيد وأحيانا جدا!المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

اقتصاد السوق هذا، والذي يعني المنافسة الحرة، خلق هوسا اجتماعيا بالثراء، ثراء الفرد وليس المجموع، ودفع بكثير من الصينيين إلى حلبة التجارة والبيزنس.  وفقا لكلام البروفيسور النفساني وانغ دنغ فنغ بات الناس يشعرون بين عشية وضحاها أنهم مجرد سلع على أرفف في دكان، وشرهت رغبتهم في أن يعترف السوق بهم وأن يصبحوا علامات تجارية في شهرة كوكاكولا، المشروب الأمريكي الذي غزا الصين في تلك السنوات. وقد كانت فترة العشرين عاما الأولى لانتهاج نظام اقتصاد السوق كفيلة برؤية بعض قصص النجاح. في ظل هذه الحياة المشحونة بالضغوط كان على البعض أن يناضل حتى يصل إلى الامتياز في النهاية.المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

السؤال، هل بعد كل هذا النجاح والتفوق والرفاهية، بالمعايير المادية، يشعر هؤلاء بالسعادة؟ يقول البروفيسور وانغ واثقا: لا، فقد اكتشف هؤلاء أنهم ليسوا إلا رجال أعمال. هويتهم المفقودة  فرضت عليهم مآسي عقلية. الصينيون الذين لم ينزلوا إلى نهر التجارة، فالتجارة حسب وصف الصينيين نهر عميق ملئ بالخيرات وأشياء أخرى، ربما تحسنت دخولهم أيضا بل زادت أضعافا مضاعفة مع ازدهار اقتصاد البلاد، ولكن الدراسات النفسية تشير إلى أن رغباتهم في الأشياء تضخمت بشكل فاحش بات من الصعب على رواتبهم، أيا كانت عالية أن تلبي احتياجاتهم. والنتيجة أنه بدلا من الشعور بالرضا أمسوا يشعرون بالإحباط، تطبيقا عمليا لنظرية يعرفها جيدا علماء الاجتماع والنفس تسمى ثورة التوقعات المتزايدة والإحباطات المتزايدة، ومفادها أن الظروف تخلق حولك أجواء ذات سقف متحرك كلما ظننت أنك على وشك ملامسة السقف يتحرك إلى أعلى، وهكذا دواليك.المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

من العوامل التي تميز الفترة الانتقالية، في الصين كما في بلدان أخرى، حالة عدم اليقين. لا أحد متيقن من شئ في المستقبل، وعندما لا تكون هناك توقعات بمستقبل طيب يميل الناس إلى التركيز على المصالح الذاتية في المدى القريب، أي ينظرون تحت أقدامهم، والأخطر أنهم يصيرون متهورين، وفقا لتحليل عالم نفس آخر هو البروفيسور هوه يو بوه، الذي يقول إن اقتران حالة عدم اليقين الاجتماعي وعبادة الثروة جعل بعضا من الصينيين يتصرفون تصرفات غير طبيعية في تلك الفترة الانتقالية. ويضيف الأستاذ الذي يعمل بجامعة بكين المرموقة، أن الرشوة باتت ظاهرة شائعة بين المسؤولين منذ العمل بنظام اقتصاد السوق، وهي، أي تقاضي الرشوة، من منظور على النفس تصرف متهور نتيجة عدم اليقين الاجتماعي والسعي وراء المال. فالفساد يشيع عندما لا يشعر هؤلاء المسؤولون بالأمان في نوعية حياتهم ومستوى معيشتهم.المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

من جانب آخر  الفلاحون الصينيون وإن كانت دخولهم ارتفعت كثيرا خلال العقدين المنصرمين فإنهم، مقارنة مع الفئات الاجتماعية الأخرى، يشعرون بأن الفترة الانتقالية ظلمتهم. التجار النابهون انطلقوا إلى الريف لعمل ثروات هائلة بالاستيلاء على الأرض الزراعية أو الحصول على مصادر المعادن، وظل الفلاحون يواجهون الأيام الشداد لزراعة المحاصيل. الفلاحون الذين اختاروا الهجرة إلى المدن بحثا عن  وظيفة في الأعمال كثيفة الأيدي العاملة يواجهون دائما التمييز ضدهم  من أبناء المدن ويحصلون على أجورهم بشق الأنفس، إن حصلوا عليها أصلا.المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

البروفيسور هوه يقول إن هذه المشاعر والسخط المتراكمين في نفوس الفلاحين لا يمكن التفريج عنها بمرور الوقت وتُسبب  تصرفات غير طبيعية. وينصح الخبير النفساني بأن يقوم متخصصون نفسيون بتقديم برامج لمساعدة المواطنين في التغلب على الصراعات الداخلية، أي أن يتصالح الإنسان مع نفسه.المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

الأطفال  يواجهون أيضا قضايا خطيرة، ذلك أن التغيرات الاجتماعية المتسارعة تجاوزت النظام التعليمي وهذا أسفر عن أزمات نفسية للشباب،  فالنظام التعليمي الصيني، وفقا للبروفيسو وانغ، يركز على جعل التلميذ يردد الأشياء، متجاهلا السلوكيات التي تشكل حياة الفرد وتبني عقلية سليمة، ولهذا فإن ما جيا جيو، الطالب بجامعة يوننان الذي لم يستطع التعامل مع صراعات في داخله، اختار أن يقتل أربعة من زملائه!المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

تشانغ كان، رئيس الأكاديمية الصينية لعلم النفس يطالب المتخصصين النفسيين والاجتماعيين بالتكاتف مع باحثي السياسات العامة لطرح حلول ممكنة على الناس. المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

لقد زرت أفقر القرى في الصين، وزرت أكثر مدنها ثراء. في القرية الفقيرة لمحت اطمئنانا في العيون والملامح، وألفة وحميمية؛ تقترب من الفرد فيبادرك بالاقتراب. في شنتشن، معجزة الصين الاقتصادية، إحدى أكثر المدن ثراء في الصين، قرأت قلقا في العيون واضطرابا على الوجوه وخوفا خفيا، تقترب من الفرد فيبتعد عنك ويسرع بعيدا. المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

المعتدلون في الصين يقولون إن المال لا يمكن أن يشتري كل شيء، ولكن بدون المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. وأحسب أن لسان حال الفقير يقول دع عنك كل هذا الجدل، أعطني المال وأنا كفيل بتصريف أمري!المال لا يمكن أن تشتري أي شيء. و

husseinismail@yahoo.com

      

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.